في ال 21 من آذار، يُحيون في أنحاء العالم اليوم العالمي لمكافحة العنصرّية والتمييز العنصريّ, كجزء من أسبوع التضامن مع الدول التي تكافح ضد العنصريّة والتمييز. يتمّ إحياؤه هذا العام في ظلّ ارتفاع مقلق في مظاهر الإسلامافوبيا واللاساميّة في أعقاب مجزرة السابع من أكتوبر والحرب الفظيعة في غزة. في إسرائيل، أيضًا، طرأ تطرّف حادّ في المواقف، في العلاقات بين المجموعات وفي الخطاب بخصوص الحياة المشتركة.
كمربّيات ومربّين نقف يوميًّا أمام جماعات وأطفال وشبّان، مع شعور بأن الواقع الكارثيّ قد اقتحم علينا حيّز عملنا، أردنا ذلك أو لا. من جهة، شعور بالضائقة والعجز والقلق بل والرغبة في التواجد في موقع آخر، بعيدًا عن الواقع المروّع، ومن جهة ثانية، الإدراك أنه في لحظة ما سنضطرّ إلى مواجهة كلّ الصعوبات مقابل التلاميذ والطلبة والجماعات التي نعمل معها. نحن نريد أن نقوم بوظيفتنا التربويّة، أن نطوّر بيداغوغيا مناهضة للعنصريّة وأن نعزّز لدى تلاميذنا وتلميذاتنا توجّهًا يقوم على فهم التعقيد القائم. نحن نريد، كما ينصّ على ذلك مرسوم المدير العام لوزارة التربية، "مواجهة مظاهر العنصريّة التي تطالعنا في الصفّ] ... [وتربية التلاميذ على الإصغاء والحوار والاحتواء وفهم الواقع المعقّد الذي نعيش وسطه". يُصبح هذا العمل في فترة الأزمة العميقة باعثًا على التحدّي بل أهمّ مما كان عليه.
نُحاول في هذه الرسالة أن نفهم باختصار ما يحصل لتلاميذنا وتلميذاتنا (ولنا، أيضًا) في حالات الطوارئ والحرب، كيف يُعزز ذلك توجّهات ثنائيّة وعنصريّة ـ اتجاه جماعات ليس لها علاقة بالحرب ـ وأن نقترح أداة يُمكن استعمالها في الصفّ لغرض الدفع باتجاه تغيير في المواقف وفهم مركّب أكثر للواقع.
حالات الطوارئ والتوجهات الثنائيّة
المجازر والحروب والموت والجوع الجماعيان ـ أمور تضع الناس أمام إدراك موجع أن حيوات الأفراد هشّة وعُرضة للانتهاك، وأنه في ذروة العنف تنحسر قيمة حياة الإنسان بالنسبة للجميع. في هذه الفترات، بوجه خاص، يتعزّز الأنا الجماعيّ. عندما يواجه الناس موتًا مكثّفا ومع عجزهم عن القيام بأيّ عمل بهذا الخصوص، يبحثون عن المعنى وعن الطمأنينة ضمن مجموعة انتمائهم. تحلّ الجماعة محلّ هشاشة الحياة الفرديّة من خلال الاعتقاد أن الجماعة ستصمد لأمد طويل. ومع هذه الطمأنينة يأتي الثمن: تعزّز حالات التطرّف هذه مفاهيم "نحن" و"هُم" وتُفضي على الغالب إلى فهم ثنائيّ للواقع.
في تجارب الماضي ما نتعلّمه عن تعقيد الصراعات بين الجماعات. في هذه الحالة يُمكن للصدمة والقلق لدى الضحايا المشتركين لهذا الصراع أن تقودنا إلى دورات متكرّرة من العنف والكراهية ونشوء ثقافة تتسم بمبنى اتهاميّ يقلّل كلّ طرف في إطاره من الضرر الذي يُحدثه، ويغالي في توصيف الضرر الذي يُحدثه الطرف الآخر. في مجتمع تقوم فيه ثقافة انتقام عنيفة متوارثة من جيل لجيل، ستنشأ ظاهرة انعدام التعاطف في العلاقات داخل المجتمع الإنساني. في حالات متطرّفة كهذه من الممكن أن تحصل سيرورتان متوازيتان: سيرورة تصنيف ودمغ وسيرورة نزع إنسانية الإنسان والجماعة. تحوّل الصدمة مع القلق الأنا الفرديّة إلى شظايا بالذات في النقطة التي تعرّف فيها هذه الصدمة علاقتنا بالآخرين وتُسبّب انحسارًا في الرابط العاطفيّ الضروريّ لعلاقات إنسانية صحّية.
"الآخر الغائب" و"الآخر الحاضر"
هناك إمكانيتان مبدئيتان لعلاقات القوة يُمكن أن تطالعانا، يوجّه في إطارهما تلميذات وتلاميذ مواقف وتصنيفات دمغيّة تجاه الـ"الآخر". في الإمكانيّة الأولى يكون هذا الآخر مجرّدًا وجماعيًّا ـ "الآخر الغائب" ـ الذي يمثّل مجموعة غير قائمة في الصفّ، وقد تُفهم أحيانًا متقاربة على أنها جماعة بدون معالم خاصة وواضحة: (كلّ العرب مثل بعضهم"). الإمكانية الثانية هي أن الآخر موجود في الصفّ ويشكّل محفّزًا لسيرورات علاقات القوّة في داخل الإطار. إنه "الآخر الحاضر"، وهو تلميذ أو تلميذة يُعتبران مختلفيْن، ويتمّ التعامل معهما أحيانًا بشكل يحوّلهما إلى ضحايا.
بيد أن هذه القِسمة غير قاطعة، لأن العنصريّة اتجاه "الآخر الغائب" ستتُرجم في نهاية الأمر إلى داخل علاقات القوّة بين التلاميذ داخل الصفّ. لأن الشخص الذي يطوّر منظومات تفكير عقلية ثنائيّة وعلى أساس عالم من التمييز لن يعبّر عن ذلك تجاه "الآخر الغائب" فقط، بل سيفعل ذلك تجاه الأشخاص حوله، أيضًا. نتيجة لذلك فإن الشخص سيتعامل بعنصريّة ليس فقط تجاه مَن لا ينتمي إلى جماعته الطبيعيّة، بل سيطوّر مفاهيم عنصريّة تجاه كلّ الذين يعتبرهم مختلفين داخل مجتمعه ـ جماعته هو. وهكذا فإن الخطاب المتطرّف لا يوجّه إلى "الآخر الغائب" فقط بل سينعكس دائما في العلاقات الداخليّة،
التضاد كأداة تربوية لمواجهة مواقف عنصريّة
من الصعب جدًّا تغيير مفاهيم خاطئة عن الـ"آخر" متجذّرة عميقًا في أوساط التلميذات والتلاميذ. إحدى الطرق للدفه نحو تغيير مواقف وتبنّي رؤية مركّبة هي من خلال خلق تضادّ ـ صراع فكريّ أو عاطفيّ بين المعرفة والمفاهيم "المعروفة" وبين معرفة ومفاهيم جديدة، تناقضها أو تتحدّاها. خلافًا للبيداغوغيا الراديكاليّة، خلق التضادّ لا يسعى إلى تغيير جذريّ لأطر وتصوّرات الحياة لدى التلميذات والتلاميذ، بل تُستعمل كوسيلة هدفها خلق خلخلة في المواقف الأولى عندهم بشكل يُفضي إلى فحص مجدّد لمفاهيمهم الثنائيّة (لذلك المتطرّفة) ودفعها إلى الاعتدال.
هذه هي الوسيلة التي يقترحها د. أدار كوهن التي نُشرت في كتاب أصدرناه، "التربية المناهضة للعنصريّة منخلال نظرة شمولية" الوسيلة المخصّصة لمواجهة مفاهيم عنصريّة في الأيام العادية، يُمكن أن تُساعد في مواجهة خطاب متطرّف في هذه الفترة، أيضًا. وفيما يلي ما كتب د. كوهن:
"في هذه الفترة العاصفة التي تضعضع وجودنا يسأل الكثير من المعلّمات أنفسهن هل يُمكن ـ إذا كان ممكنًا أصلًا ـ وكيف يتمّ التوجّه للاشتغال في موضوع الصراع والحرب في الصفّ. مثل هذه المسائل تُثير على الغالب حساسيّات بقوّة كبيرة وتبعث مواقف متطرّفة. حتى ننجح في معرفة كيف نواجه ذلك بشكل صحيح ونلائم الحصّة لمجموعات التلاميذ العينيّة في الصفّ، علينا أن نحلّل بدايةً أسباب الصعوبة الكبيرة التي يعيشها المعلّمون والتلاميذ.
ينطلق المقال المرفق من فرضية أن واقع الصراع "المزمن"، خاصة في فترات الأزمة كما هي الآن، يزيد الميل إلى توجّهات ثنائيّة في رؤيتنا للعالم: "هم" مقابل "نحن" و "أخيار" و"أشرار"، "محقّون" و"مُخطئون". المنهجيّة العملية التي يقترحها المقال لمواجهة هذا الميل هو وسيلة التضادّ العاطفي والعقليّ. هذا التضادّ، إذا تمّ تفعيله بشكل محسوب وحسّاس، يقترح على التلاميذ نظرة أكثر تركيبًا إلى الواقع: لتستغربوا، لكن... هناك أخيار وأشرار في كل جانب، كلّ الناس يقومون بأعمال صحيحة وأمور غير خاطئة، بل في كل واحد فينا تعقيد ما وجوانب مختلفة. التضادّ كوسيلة تربويّة يُمكن أن يُساعد أبناء الشبيبة على أن يُدركوا أنه ليس كلّ المنتمين إلى مجموعة X هم بالضرورة ذوو طبيعة Y أو سلوك Z. وإذا نجحنا في صدع نظرتهم الثنائيّة إلى العالم ولو قليلًا، فهذا يكفي".